فصل: تفسير الآيات (120- 126):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (120- 126):

{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأُلقى السحرةُ} على وجوهم {ساجدين} لما عرفوا الحق وتحققوا به، فآمنوا؛ لأن الحق بهرهم، واضطرهم إلى السجود بحيث لم يتمالكوا، أو ألهمهم الله ذلك وحملهم عليه، حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسف موسى، وينقلب الأمر عليه.
{قالوا آمنا بربِّ العالمين ربِّ موسى وهارون} أبدلوا الثاني من الأول؛ لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون. {قال فرعونُ آمنتم به} أي: بالله أو بموسى، {قبل أن آذن لكم إنَّ هذا لمكرٌ مكرتموه} أي: إن هذه لَحيلة صنعتموها أنتم وموسى {في المدينة}؛ في مصر، ودبرتموها قبل أن تخرجوا للميعاد؛ {لتُخرِجُوا منها أهلها} أي: القبط، وتخلص لكم ولبني إسرائيل، {فسوف تعلمون} عاقبة ما صنعتم.
ثم فصّل ما هددهم به، فقال: {لأقطعّن أيديكم وأرجلكم من خلاف} من كل شق عضو، كَيَدٍ ورِجل من كل واحد {ثم لأُصلبنَكم أجمعين} تفضيحًا لكم وتنكيلاً لأمثالكم، وليس في القرآن أنه أنفذ ذلك، ولكن رُوِي عن ابن عباس وغيره أنه فعله. قيل: إنه أول من سنَّ ذلك أي: القطع من خلاف فشرعه الله للقطاع تعظيمًا لجرمهم، فلذلك سماه الله محاربة لله ورسوله.
{قالوا} أي: السحرة لما خوفهم: {إنا إلى ربَّنا منقلبون} بالموت، فيكرم مثوانا، فلا نُبالي بوعيدك، كأنهم اشتاقوا إلى اللقاء، فهان عليهم وعيده، أو إنا وأنت إلى ربنا منقلبون، فيحكم بيننا وبينك، {وما تَنقِمُ منا} أي: وما تعيب علينا {إلا أن آمنا بآيات ربَّنا لما جاءَتنا}، وهو لا يعاب عند العقلاء، لأنه خير الأعمال، وأصل المناقب ومحاسن الخلال، ثم فزعوا إلى الله فقالوا: {ربنا أفرِغ علينا صبرًا} أي: اصبب علينا صبرًا يغمرنا، كما يُفرغ الماء على الشيء فيغمره، {وتوفنا مسلمين} ثابتين على الإسلام. قال البيضاوي: قيل إنه فعل بهم ذلك، وقيل: إنه لم يقدر عليه، لقوله: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القَصَص: 35]. اهـ. وقد تقدم قول ابن عباس وغيره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر من سبقت له العناية، هؤلاء السحرة جاؤوا يُحادون الله فأمسوا أولياء الله، فكم من خصوص تخرج من اللصوص، وانظر أيضًا صبرهم وثباتهم على دينهم، وعدم مبالاتهم بعدوهم، هكذا ينبغي أن يكون مَن مراده مولاه، لا يلتفت إلى شيء سواه، وعند هذه التصرفات يفتضح المُدّعُون ويثبت الصادقون، عند الامتحان يعز المرء أو يُهان.

.تفسير الآيات (127- 129):

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقال الملأُ من قوم فرعون أَتذَرُ موسى وقومَه} أي: تتركهم يخالفون دينك {ليُفسدوا في الأرض} أي: يخربوا ملكك بتغيير دينك ودعوتهم إلى مخالفتك، {ويَذَرك وآلهتك} أي: يترك موسى دينك ومعبوداتك التي تعبد، قيل: كان يعبد الكواكب، وقيل: صنع لقومه أصنامًا وأمرهم أن يعبدوها تقربًا إليه. ولذلك قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النَّازعَات: 24]. قال فرعون في جوابهم: {سَنُقتِّل أبناءَهم} أي: ذكورهم {ونستحي نساءهم} أي: بناتهم، كما كنا نفعل من قبل، ليُعلم أَنَّا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه. {وإنا فوقهم قاهرون} غالبون، وهم مقهورون تحت أيدينا.
{قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا}، قاله تسكينًا لهم حين سمعوا قول فرعون وما هددهم به، ثم قال لهم: {إن الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده} وسيورثها لكم إن صبرتم وآمنتم. {والعاقبة للمتقين}، فتكون العاقبة لكم إن اتقيتم، وهو وعدٌ لهم بالنصر والعز، وتذكير بما وعدم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وملكهم.
{قالوا} أي: بنوا إسرائيل: {أُوذينا من قبل أن تأتينا} بقتل الأبناء، {ومن بعد ما جئتنا} بإعادته، فلم يرتفع عنا الذل بمجيئك، {قال عسى ربُّكم أن يُهلك عدوكم ويستخلِفَكم في الأرض}، تصريحًا بما كِنّى عنه أولاً، لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك، ولعله أتى بحرف الطمع، أي: الترجي؛ لعدم جزمه بأنهم المستخلَفون بأعيانهم، أو أولادهم، وقد رُوِي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام، قاله البيضاوي. {فينظرَ كيف تعملون} أي: فإذا استخلفكم يرى ما تعملون من شكر أو كفران، أو طاعة أو عصيان، فيجازيكم على حسب ما يُوجد منكم من كفر أو إحسان.
الإشارة: ما وقع للأنبياء مع قومهم وقع مثله لأشياخ هذه الأمة وفقرائها مع أهل زمانهم، ولما كثرت الأحوال من الفقر أو خرق العوائد، وظهروا بتخريب ظواهرهم، وقعت بهم الشكاية إلى السلطان، وقالوا له: هؤلاء يخربون ملكك، فآل على نفسه إنَّ مكنه الله منهم لا يترك منهم أحدًا، فكفى الله بأسه، فاستعانوا بالله وصبروا، واشتغلوا بذكر الله، وغابوا عمن سواه، فكانت العاقبة للمتقين.

.تفسير الآيات (130- 131):

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)}
قلت: عبَّر في جانب الحسنة بإذاء المفيدة للتحقيق، وعرَّف الحسنة؛ لكثرة وقوعها، وعبَّر في جانب السيئة بإن المفيدة للشك، ونكّر السيئة لنُدورها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد أخذنا آلَ فرعوَن بالسنين} أي: بالجدب والقحط لقلة الأمطار والمياه، {ونقصٍ من الثمرات} بكثرة العاهات، {لعلهم يذّكَّرون} أي: لكي ينتبهوا أن ذلك من شؤم كفرهم ومعاصيهم، ويتعظوا، وترق قلوبهم بالشدائد، فيفزعوا إلى الله، ويرغبوا فيما عنده.
{فإذا جاءتهم الحسنةُ}، من الخصب والسعة والرخاء، {قالوا لنا هذه} أي: قالوا: هذه لنا ولسعودنا، ونحن مستحقون له. {وإن تُصبهم سيئة}: جدب وبلاء {يطيَّروا بموسى ومن معه} أي: يتشاءموا بهم، ويقولون: ما أصابتنا إلا بشؤمهم، وهذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة؛ فإن الشدائد تُرقق القلوب، وتُذلل العرائك أي: الطبائع، وتُزيل التماسك، سيما بعد مشاهدة الآيات، وهي لم تؤثر فيهم، بل زادوا عندها عتوًا وانهماكًا في الغي.
قال تعالى: {ألا إنما طائرُهم عند الله} أي: سبب طائرهم وشرهم عنده، وهو حكمه ومشيئه، أو سبب شؤمهم عند الله، وهو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنها التي ساقت إليهم ما يسؤوهم. قال ابن جزي: أي: حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله، وهو مأخوذ من زجر الطير، ثم سمى به مَا يُصيب الإنسان، ومقصود الآية: الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم. ه، {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} أن ما يصيبهم من الله تعالى بلا واسطة، أو من شؤم أعمالهم.
الإشارة: هذه الخصلة جارية أيضًا في هذه الأمة، أعني التطاير، ترى العوام إذا نزل بهم بلاء أو شدة قالوا: بظهور هؤلاء وقع بنا ما وقع، ولقد سمعتُ ممن حكى لي هذه المقالة عن العامة وقت ابتداء ظهور الفقراء، وذلك أنهم آذوهم أذى شديدًا، فأرسل الله عليهم كثرة الأمطار كادت أن تكون طوفانًا، فقالوا: ما أصابنا هذا إلا من شؤم هذه المرقعات التي ظهرت، ولم يدروا أن ذلك منهم لإذايتهم أهل الله. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (132- 137):

{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)}
قلت: {مهما}: اسم شرط جازم، و{تأتنا}: شرطها، وجملة {فما نحن}: جوابها، قيل: مركبة، وأصلها: ما الشرطية، ضُمت إليها ما الزائدة، نحو: أينما، ثم قُلبت الألف هاء، والمشهور: أنها بسيطة، ومحلها: رفع بالابتداء، أو نصب بفعل يفسره: {تأتنا} والضمير في: {به} عائد على {مهما}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقالوا} أي: فرعون وقومه: {مهما تأتنا به من آيةٍ}، وإنما سموها آية على زعم موسى، لا لاعتقادهم، ولذلك قالوا: {لتسحرنا بها} أي: لتسحر بها أعيينا وتشبه علينا، {فما نحن لك بمؤمنين}. وهذا من عظيم عتوهم وانهماكهم في الكفر.
قال تعالى: {فأرسلنا عليهم الطوفانَ} وهو مطر شديد نزل بهم مع فيض النيل، حتى هدم بيوتهم وكادوا يهلكون، وامتنعوا من الزراعة، وقيل: الطاعون، وقيل: الجدري، وقيل الموتان، {والجراد} وهو المعروف، أكل زروعهم وثمارهم، حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم، {والقُمَّلَ} قيل: أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها، وقيل: البراغيث، وقيل السوس، والتحقيق: أنه صغار القراد، دخل ثيابهم وشعورهم ولحاهم، وقرئ: {القَملَ} بفتح القاف وهو القمل المعروف، دخل ثيابهم وامتلأت منها، {والضفادعَ}، وهي المعروفة، كثرت عندهم حتى امتلأت بها فروشهم وأوانيهم، وإذا تكلم أحدهم وثب الضفدع إلى فيه. {والدمَ} صارت مياههم دمًا، فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد، فيخرج ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماء.
قال البيضاوي: رُوِي أنهم مُطِروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته، ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم، وكانت بيوت بني إسرائيل متصلة ببيوتهم، فلم يدخل فيها قطرة، وركب على أرضهم فمنعتهم من الحرث والتصرف فيها، ودام ذلك عليهم أسبوعًا، فقالوا لموسى عليه السلام: أدع لنا ربك بما عهد عندك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا الله فكشف عنهم، ونبت لهم من الكلأ والزرع والثمار ما لم يعهد مثله، ولم يؤمنوا، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زرعهم وثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب، ففزعوا إليه ثانيًا، فدعا، وخرج إلى الصحراء، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها، فلم يؤمنوا، فسلط عليهم القمل وأكل ما أبقاه الجراد، فكان يقع في أطعمتهم ويدخل في ثيابهم وجلودهم فيمصها، ففزعوا إليه فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا ينكشف ثوب ولا طعام إلا وُجدت فيه، وكانت تملأ مضاجعهم، وتثب إلى قدورهم وهي تغلي وأفواههم عند التكلم، ففزعوا وتضرعوا، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياههم دمًا، حتى يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على الماء، فيكون ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماء، ويمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير دمًا في فيه، وقيل: سلط عليهم الرعاف. اهـ.
{آياتٍ} أي: حال كون ما تقدم آيات {مُفصَّلاتٍ}، مبينات، لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته. قيل: كان بين كل واحدة منها شهر، وامتداد كل واحدة منها شهر، وامتداد كل واحدة أسبوعًا، وقيل: إن موسى ثبت فيهم، بعد ما غلب السحرة، عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل، {فاستكبروا} عن الإيمان {وكانوا قومًا مجرمين} أي: عادتهم الإجرام.
{ولمّا وقع عليهم الرَّجزُ} يعني: العذاب المفصل، أو الطاعون الذي أرسله عليهم بعد ذلك، {قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك} أي: بعهده عندك، وهو النبوة، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك. والمعنى: ادع الله متوسلاً إليه بما عهد عندك من النبوة والجاه، أو بدعائك إليه ووسائلك، {لئن كشفت عنا الرجز}: العذاب {لنُؤمنن لك} أي: أقسمنا بعهد الله لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك {ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل} كما طلبت، قال تعالى: {فلما كشفنا عنهم الرِّجزَ إلى أجل هم بالغوه} إلى حد من الزمان هم بالغوه ثم يُهلكون، وهو وقت الغرق أو الموت، وقيل: إلى أجل عينوه لإيمانهم، {إذا هم ينكُثُون}؛ جواب لَمَّا أي: فلما كشفنا عنهم جاؤوا بالنكث من غير تأمل ولا توقف، {فانتقمنا منهم} أي: فأردنا الانتقام منهم، {فأغرقناهم في اليم} أي: البحر الذي لا يدرك قعره أو لجته، {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كذَّبوا بآياتنا} التي أرسلناها عليهم. {وكانوا عنها غافلين} أي: أغرقناهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها.
{وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعَفون} بالاستعباد وذبح الأبناء {مشارقَ الإرضِ ومغاربها} يعني: أرض الشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتمكنوا من نواحيها {التي باركنا فيها} بالخصب وسعة العيش، وهي أرض الشام. وزاد ابن جزي: ومصر.
{وتمّتْ كلمةُ ربك الحسنى على بني إسرائيل} أي: نفذت ومضت واستقرت، والكلمة هنا: ما قضى في الأزل من إنقاذهم من عدوهم، وقيل: قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعفُواْ فِي الأَرْضِ} [القَصَص: 5] وكانت حسنى؛ لما فيها من النصر والعز، {بما صبروا} أي: بسبب صبرهم على الشدائد {ودمَّرنا} أي: خربنا {ما كان يصنعُ فرعونُ وقومهُ} من القصور والعمارات، {وما كانوا يعْرِشُون} من البنيان المرتفع كصرح هامان، أو ما كانوا يرفعون من الكروم في البساتين على العرشان، فالأول من العرش والثاني من العَريش.
الإشارة: قد جرت عادة الله في خلقه أن يظهر الخواص من عباده، فَيُنكَرُوا أو يستضعفوا، حتى إذا طُهّروا من البقايا وتمكنوا من شهود الحق، مَنَّ الله عليهم بالعز والنصر والتمكين، فمنهم من يمكن من التصرف في الحس والمعنى، ويقره الوجود بأسره، ومنهم من يمكَّن من التصرف في الكون بهمته، ولكنه تحت أستار الخمول، لا يعرفه إلا من اصطفاه لحضرته، وهذا من شهداء الملكوت، ضنَّ به الحق تعالى فلم يظهره لخلقه. والله تعالى أعلم وأحكم.

.تفسير الآيات (138- 141):

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وجاوزنا بِبني إسرائيل} أي: قطعنا بهم {البحرَ}، رُوِي أنهم عبروه يوم عاشوراء، بعد مهلك فرعون، فصاموه شكرًا، {فأَتَوا على قوم} أي: مروا على قوم من العمالقة، وقيل: من لخم، {يعكُفُون على أصنام لهم} أي: يقيمون على عبادتها، قيل: كانت تماثيل البقر، وذلك أول شأن عبادة العجل، وهؤلاء القوم، قيل: هم الجبارُون الذين أمر موسى بقتالهم بعد وصوله إلى الشام، ولما رأهم بنو إسرائيل {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا} أي: مثالاً نعبده {كما لهم آلهة} يعبدونها، {قال} لهم موسى عليه السلام: {إنكم قوم تجهلون}، وَصَفَهُم بالجهل المطلق، وأكده بإن؛ لبُعد ما صدر منهم، بعد ما رأوا من الآيات الكبرى.
قال البيضاوي: ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن مَنَّ الله تعالى عليهم بالنعم الجسام، وآراهم من الآيات العظام، تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرى منهم ويلقى من التشغيب، وإيقاظًا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم. اهـ. وذكر في القوت أن يهوديًّا قال لعلي رضي الله عنه: كيف اختلفتم وضربتم وجوه بعضكم بالسيف، ونبيكم قريب عهد بكم؟ فقال: أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}. اهـ.
ثم قال لهم موسى رضي الله عنه: {إن هؤلاء مُتَبَّرٌ}: مدمر هالك {ما هُم فيه} يعني: أن الله تعالى يهدم دينهم الذي هم فيه، ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضًا. {وباطلٌ} مضمحل {ما كانوا يعملون} من عبادتها، وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى، وإنما بالغ في هذا الكلام تنفيرًا وتحذيرًا عما طلبوا. {قال أغيرَ اللهِ أبغيكم} أطلب لكم {إلهًا} أي: معبودًا {وهو فضّلكم على العالمين} أي: والحال أنه قد خصكم بنعم لم يُعطها غيركم، وفيه تنبيه على سوء مقابلتهم حيث قابلوا تخصيص الله لهم بما استحقوه تفضلاً، بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته وأبلدَه، وهو البقر.
{وإذ أنجيناكم من آل فرعون} أي: واذكروا صُنعه معكم في هذا الوقت حيث نجاكم من فرعون ورهطه {يسومُونَكم} أي: يذيقونكم {سوءَ العذاب}، ثم بينَّه بقوله: {يقتلون أبناءَكم} ذكورهم {ويستحيون نساءَكم} أي: بناتكم، {وفي ذلكم بلاءٌ من ربكم عظيم} أي: وفي ذلك القتل امتحان عظيم، أو في ذلك الإنجاء نعمة عظيمة وامتنان عظيم.
الإشارة: من جاوز بحر التوحيد وحاد عنه، ولم يغرق فيه، لا يخلو من طلب شرك جلي أو خفي؛ لأن النفس ما دامت لم تغرق في بحر الوحدة، ولم تسبها جمال المعاني، قطعًا تميل إلى شيء من جمال الحس، لأن الروح في أصلها عشاقة، إن لم تعشق جمال الحضرة تعشق جمال الحس، ومن ركن إلى شيء مما سوى الله فهو شرك عند الموحدين من المحققين، ويؤخذ من الآية أن شكر النعم هو تلخيص التوحيد، وانفراد الوجهة إلى الله تعالى؛ لأن بني إسرائيل لمَّا أنعم الله عليهم بالإنجاء وفلق البحر قابلوا ذلك بطلب الشرك، فسقطوا من عين الله واستمر ذلهم إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم.